فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} الآية.
روى سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس. قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مسلم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف قالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله. فأنزل الله في قولهم: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله}، وقرأ ابن محيصن وعاصم والكسائي: {عزيرٌ} بالتنوين، وهو قول أبي عبيد وأبي حاتم.
وقرأ الباقون بغير تنوين، فمن نوّن قال: لأنه اسم خفيف فوجهه أن ينصرف وإن كان أعجميًا مثل نوح ولوط وهود، وقال أبو حاتم والمبرّد: الاختيار التنوين لأنه ليس بمنسوب، والكلام ناقص وفي موضع الخبر وليس بنصب، وإنما جاز التنوين في النعت إذا كان الاسم يستغني عن الابن أو ينسب إلى اسم معروف أو لقب غلب عليه، مثل محمد بن عبد الله ويزيد ابن عبد الله، لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد فينوّن في الخبر ويحذف في الصفة، وربما أثبتوا التنوين في الصفة، ويقول الشاعر، أنشده الفرّاء:
والاّ تكن مال هناك فإنّه ** سيأتي ثنائي زيدًا بن مهلهل

وأنشد الكسائي [...] مذهبه.
وقال أبو عبيدة: هذا ليس بمنسوب إلى أبيه إنما هو كقولك: زيد ابن الامير، وزيد بن عبد الله، فعزير يكون بعده خبر.
ومن ترك التنوين قال: لأنه اسم اعجمي ويشبه اسمًا مصغرًا.
وقال الفرّاء: لما كانت النون من عزير ساكنة (وهي نون التنوين) والباء من الابن ساكنة والتقى ساكنان حذف الأول منهما استثقالًا لتحريكه، كما قال: لتجدني بالأمير برًا، وبالقناة مدعًا مكرًا، إذا غطيف السلمّي فرّا.
فحذف النون الساكن الذي استقبلها، وقال الزجّاج: يجوز أن يكون الخبر محذوفًا تقديره: عزير ابن الله معبودنا.
قال عبيدة بن عمير: إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال: إن الله فقير يستقرض.
عطية العوفي عن ابن عباس قال: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} فانما قالوا ذلك من أجل أن عزيرًا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم ما شاء الله أن يعلموا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التابوت فيهم، فلمّا رأى الله عز وجل أنهم أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء وأذهبوا التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، فأرسل الله عزّ وجل عليهم مرضًا فاستطالت بطونهم حتى جعل الرجل يمسّ كبده، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم، وفيهم عزير فمكثوا ماشاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم، وكان عزير قبل من علمائهم فدعا عزير (الله) وابتَهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم، فبينما هو يصلي مبتهلًا إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذّن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليَّ فعلق يعلّمهم فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا وهو يعلّمهم، ثم إن التابوت تُرك بعد ذلك، وبعد ذهابه منهم، فلمّا رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلّمهم فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما أُتي عُزير هذا إلا إنّه ابن الله.
وقال السدّي وابن عباس في رواية عمار بن عمار: إنما قالت اليهود عزير ابن الله لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا كتب التوراة في الجبال وغيرها، فلحق عزير بالجبال والوحوش، وجعل يتعبّد في الجبال، ولا يخالَط ولا يُخالط الناس ولاينزل إلا يوم عيد، وجعل يبكي ويقول: يا رب تركت بني إسرائيل غير عالم فجعل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه، فنزل مرة إلى العيد فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد خلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه يا كاسياه، فقال لها عزير: يا هذه اتقي الله واصبري واحتسبي، أما علمتِ أنّ الموت سبيل الناس، وقال: ويحك من كان يطعمكِ ويكسوكِ قبل هذا الرجل يعني زوجها الذي كانت تندبه قالت: الله، قال: فإن الله حي لم يمت، قالت: يا عزير فمن كان يعلّم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله، قالت: فلم تبكي عليهم، وقد علمت أن الموت حق وأن الله حي لايموت، فلمّا عرف عزير أنه قد خُصم ولّى مدبرًا.
فقالت له: يا عزير إنّي لست بامرأة ولكني الدنيا، أما إنّه ينبع ماء في مصلاك عين، وتنبت شجرة فكلْ من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلِّ ركعتين فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذ منه، فلمّا أصبح نبعت من مصلاّه عين، ونبتت شجرة ففعل ما أمرته به، فجاء شيخ فقال له: افتح، قال: ففتح فاه وألقى فيه شيئًا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعًا كهيئة القوارير ثلاث مرات، ثم قال له: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك، قال: فدخلها فجعل لايرفع قدمه إلا زيد في علمه حتى انتهى إلى قومه، فرجع إليهم وهو من أعلم الناس بالتوراة. فقال: يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة.
قالوا: يا عزير ماكنت كاذبًا، فربط على كل اصبع له قلمًا وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة على ظهر قلبه، فأحيا لهم التوراة، وأحيا لهم السنّة، فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التي دفنوها من توراة عزير فوجدوها مثلها، فقالوا: ما أعطاه الله ذلك إلا لأنه ابنه.
وقال الكلبي: إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك غلامًا صغيرًا فاستضعفوه، فلم يقبله ولم يدرِ أنه قرأ التوراة، فلمّا توفي مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة، فبعث الله عز وجل عزيرًا ليجدد لهم التوراة ويكون آية لهم، فأتاهم عزير وقال: أنا عزير فكذّبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم عزير فاتلُ علينا التوراة، فكتبها وقال: هذه التوراة.
ثم إن رجلًا قال: إن أبي حدّثني عن جدي أن التوراة جعلت لنبي ثم دفنت في كوّم فانطلقوا معه حتى احتفرها وأخرجوا التوراة وعارضوا بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منه حرفًا ولا آية فعجبوا وقالوا: ابن الله، ما جعل التوراة في قلب رجل واحد بعد ما ذهبت من قلوبنا إلا أنه ابنه، فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله.
وأما النصارى فقيل: إنّهم كانوا على دين واحد سنة بعدما رُفع عيسى، يصلّون القبلة ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: يونس قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فكفرنا وجحدنا والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، إني احتال فأضلّهم حتى يدخلوا النار، وكان لها فرس يقال له: العقاب يقاتل عليها فغرقت فرسه وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب.
فقال له النصارى: مَن أنت؟ قال يونس: عدوكم سمعت من السماء: ليس لك توبة إلا أن تتنصّر وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتًا سنة لايخرج منه ليلًا ولا نهارًا حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال لهم إن الله قبل توبتك، فصدّقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطور وعلّمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجه إلى الروم وعلّمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنّس ولابجسم فتجسّم ولكنّه ابن الله، وعلَّم ذلك رجلًا يقال له: يعقوب.
ثم دعا رجلًا يقال له: ملكًا وقال له: إن الله لم يزل ولا يزال عيسى عليه السلام، فلمّا استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدًا واحدًا، وقال لكل واحد منهم: أنت خليفتي، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدًا أذبح نفسي فادع الناس للمذبحة، ثم دخل المذبحة فذبح نفسه، وقال: إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى، فلمّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى (نحلته) فتبع كل واحد طائفة من الناس واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث.
{ذلك} يعني قول النصارى: إن المسيح ابن الله: {قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} يقولون بألسنتهم من غير علم.
قال أهل المعاني: إن الله عز وجل لايذكر قولًا مقرونًا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان ذلك القول زورًا كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]، و{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]، وقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5] {يُضَاهِئُونَ} قال ابن عباس: يُشبهون وعنه أيضًا: يحكون، وقال مجاهد: يواطئون.
وقال ذي نون: وفيه لفضان يضاهئون بالهمزة وهي قراءة عاصم، ويضاهون بغير همزة وهي قراءة العامة، يقال: ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد {قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} قال قتادة والسدي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقال النصارى: المسيح ابن الله كما قال اليهود: عزير بن الله، وقال مجاهد: يضاهئون قول المشركين حين قالوا اللات والعزى ومناة بنات الله، وقال الحسن: شبّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأُمم الكافرة، وقال لمشركي العرب حين حكى عنهم، {وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118]، ثم قال: {كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] وقال القيتبي: يريد إن مَن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أوّلوهم.
{قَاتَلَهُمُ الله} قال ابن عباس: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل هو لعن، ومثله قال أبان بن تغلب:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت ** أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وقال ابن جريج: قاتلهم الله وهو بمعنى التعجب {أنى يُؤْفَكُونَ} أي يكذبون، ويصرفون عن الحق بعد قيام الدلالة عليه. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيرٌ ابْنُ اللَّهِ} الآية.
أما قول اليهود ذلك فسببه أن بختنصر لما أخرب بيت المقدس أحرق التوراة حتى لم يبق بأيديهم شيء منها، ولم يكونوا يحفظونها بقلوبهم، فحزنوا لفقدها وسألوا الله تعالى ردها عليهم، فقذفها الله في قلب عزير، فحفظها وقرأها عليهم فعرفوها فلأجل ذلك قالوا إنه ابن الله.
واختلف فيمن قال ذلك على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن ذلك كان قول جميعهم، وهو مروي عن ابن عباس.
والثاني: أنه قول طائفة من سلفهم.
والثالث: أنه قول جماعة ممن كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف فيهم على قولين:
أحدهما: أنه فنحاص وحده، ذكر ذلك عبيد بن عمير وابن جريج.
والثاني: أنهم جماعة وهم سلام ابن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، وهذا مروي عن ابن عباس.
فإن قيل: فإذا كان ذلك قول بعضهم فلم أضيف إلى جميعهم؟
قيل: لأن من لم يقله عند نزول القرآن لم ينكره، فلذلك أضيف إليهم إضافة جمع وإن تلفظ به بعضهم.
{وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وهذا قول جميعهم، واختلف في سبب قولهم لذلك على قولين:
أحدهما: أنه لما خلق من غير ذكر من البشر قالوا إنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك.
الثاني: أنهم قالوا ذلك لأجل من أحياه من الموتى وأبرأه من المرضى.
{ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ} معنى ذلك: وإن كانت الأقوال كلها من الأفواه: أنه لا يقترن به دليل ولا يعضده برهان، فصار قولًا لا يتجاوز الفم فلذلك خص به.
{يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ من قبلُ} أي يشابهون، مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء إذا لم تحض تشبيهًا بالرجال ومنه ما جاء في الحديث: «أَجرَأُ النَّاسِ عَلى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ خَلْقَهُ» أي يشبهون به.
وفيهم ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن قولهم ذلك يضاهي قول عبدة الأوثان في اللات والعزى ومناة وأن الملائكة بنات الله، قاله ابن عباس وقتادة.
والثاني: أن قول النصارى المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله، قاله الطبري.
والثالث: أنهم في تقليد أسلافهم يضاهون قول من تقدمهم، قاله الزجاج.
{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: معناه لعنهم الله، قاله ابن عباس ومنه قول عبيد بن الأبرص:
قاتلها الله تلحاني وقد علمت ** أني لنفسي إفسادي وإصلاحي

والثاني: معناه قتلهم الله، قاله بعض أهل العربية.
والثالث: أن الله تعالى فيما أعده لعذابهم وبينه من عداوتهم التي هي في مقابلة عصيانهم وكفرهم كأنه مقاتل لهم.
{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} معناه كيف يُصرفون عن الحق إلى الإفك وهو الكذب. اهـ.